بعضهم لا يغادر طفولته أبداً،.. أقول بعضهم، لأنّ أولئك قلةٌ يعيشون بيننا. نعرفهم بمجرد أن نجالسهم ولو قليلاً من الوقت،.. أحياناً بمجرّد أن نلمحهم على الطريق. وربما نجدهم في مرايانا في أوقاتٍ لا تدهمنا فيها حياة الغبار العاجّةِ بأفواج الخارجين على قانون التوحّد في الذات.
هؤلاء الكبار الصغار،. يلوّنون لنا حياتنا بالأناشيد،.. يمنحون المشاهد قيمةً لا تنتسى،.. الأشياء معنى آخر لا يراه الآخرون،.. الصباحاتُ التي يعيشونها لا نعيشها نحن،.. المساءات التي تفرش على وجوههم عباءاتها المذهبة بالنجوم، لا نراها نحن كذلك!..
أولئك لا يرون الشجرة شجرةً،.. يرونها إمرأة عاشقةً تعشق الانتماء إلى مكان واحد،.. لا ينتظرون إلى النهر كنهرٍ،.. هو لديهم شريانٌ يجري خلاله دم الحياة الشفيف وكل الشرايين موصولةٌ بأربطة لا مرئية توصل إلى الشجرة ذاتها كي تقوى على مواجهة ريح الاقتلاع.
لا يرون العشب مجرد بساط موسمي أخضر،.. بل سجادة صلاة على كل من يمشي عليها الإحساس بالخشوع والإجلال،.. لا يرون الفراشة مجرد كائن إنتحاري يتحطم على لهب القنديل،.. بل كائناً يساهم في إضاءة ما حوله بروح هي أصلاً مليئة بالأضواء الملونة.
يا لهم،.. من أجنّةٍ لم تغادرْ بعد رحم الخيال المجنحِ،.. إلى واقع مقصوص الأجنحة والطموحات.
ويا لهم،.. من قرّاء لا تزال ألسنتهم تتهجى حتى آخر العمر أبجديات المكاغاة الحالمة.
العشاق ينتمون إلى تلك الفئة التي لا تغادر طفولتها،.. الأمهات كذلك،.. ثمة أطفال حقيقيون لا ينتمون إليها،.. هي فئة لا يحددها العمر،.. ولا سقف للسنوات التي تطرز وجوههم بالبسمات.
قنوعون هم،.. وطيبون، وغفورون حتى آخر السماح،.. لعلم أسلافُ الصالحين جميعاً والبنين.
لعلهم آخر من تبقى من زمن الدهشة، وقد ظن الجميع أنه زمن فقد صلاحيته منذ أزمان أنا، حفظت ملامحهم جيداً،.. وكلما خلوتُ إلى نفسي أبحث في مراياي عن شبه يجمعني بهم،.. مؤخراً أكتشفت أنهم قوم لا يستعملون المرايا،.. وكان علي أن أواصل البحث عن صلةٍ تجمعني بهم،.. تجعلني أنتمي إلى جمهوريتهم الفاضلة،.. متأخرا اكتشفت إنني منهم،.. حين فجأةً اكتشفتُ أن المرايا التي يستخدمونها هي الورق، وما أكثر الورق والحبر لدي.
* * *
الخمسون، منتصف العمر،.. أم خواتمه والنهايات؟!
خمسون شمعةً في حلوى الميلاد،.. يا لها من مرارة فادحة.
كانت عربة العمر تهبط مسرعة في منحدرٍ عميق.
كان شباك الذاكرة الزجاجي، يرتطم عنيفاً بحجرِ الواقع الكبير.
رجل في الخمسين،.. ربما قبل خمسين سنة، كان يعني رجلا على شرفة الذبول، يجلسُ مكسورا على حافة فنجان الأمل.
رجل في الخمسين،.. يعني اليوم،.. رجل ناضج كتفاحة حبلى بالمواعيد، تهبط للمرة الأولى على أرض العجائب وهي ترفل بالأحلام الصغيرة والكبيرة معاً.
ما الذي تغيّر إذاً، طالما السنوات هي ذاتها،..
والرجال لم يتغيرّون منذ أول السقوط إلى الأرض.
ما الذي تغيّر ،.. طالما العمر محدود،.. وآخر المطاف مقبرة؟! ربما تغير حجم طائر الأمل في القفص الصدري،.. تغيّر مجرى النهر،.. فصارَ صعوداً يتجه ويعاكس المنحدرات.
الذي تغير فقط،.. أننا حين وحدنا نجلس أمام المرآة،.. ننزع عن وجوهنا أقنعة العصر الحديث،.. لنكتشف مرغمين أن الخمسينية المعاصرة، هي ذاتها الخمسينية الغابرة، مع فارقٍ الجرأة على الإعلان.
* * *
الذكورة والتأنيث
هل حقيقةً أنّ التأنيث هو الأجمل؟!
أم أنه منذور لذلك،.. يكتسب جماله بحكم أنه موصوف لتراه الذكورة كذلك،.. المرأة في البشر أجمل من الرجل،.. لكن من وضع مقاييس الجمال،.. وهل الجمال في الضعف،.. والأنوثة في الإنكسار والتلون،.. أم أن الجمال في فحولة المعنى؟!
الوردة مؤنثة،.. والشجرة،.. لكن أليس عطر الوردة المذكر أجمل من ثوبها الأنثوي،.. أليس الثمر المذكر للشجرة أجمل من عباءتها الأنثوية الخضراء..
الرجل يرى المرأة جميلة،.. ألا ترى المرأة أن الرجل جميل كذلك؟!..
إذن الجمال اتصال واقع بين الذكورة والأنوثة، لا يكتمل إلاّ في حال قبول الآخر بالأول.
إذن،.. الجمال مذكر لغةً،.. وأنثوي معنى، وهذا دليلّ على التكامل المعنوي.
الجمال فطري،.. ومصنّع أيضاً،.. طبيعي ومخلوق،.. وغالباً ما يبدو الطبيعي أكثر جمالاً،.. الشفافية هي الجمال الأبقى.
هل يجعل الثوب الأبيض العروسَ جميلةً؟!
ذكورة الثوب تعطي أنوثة العروس جمالها أحياناً،..
وأحياناً أخرى ينعكس الأمر فيكتملان.
* * *
كل شيء نسبي،.. لعلّ أنشتاين أدرك باكراً هذا الأمر، لهذا الخيال أكثر جمالاً من الواقع..
لهذا الحلم أكثر جمالاً من القيامة كل يوم إلى نهار جديد.